البكاء على وطن يطير برحيل منصور رحبانى
وداعاً يامن صنعت للحن مذاقاً نشتهيه
وداعاً يامن صنعت للحن مذاقاً نشتهيه
"انتبهوا عالوطن .. انتبهوا.. الوطن عم بيطير، طار الكرسى، واللى على الكرسى .. ونحنا ملهيين"، هكذا لحن وغنى منصور رحبانى خلال مسرحية "حكم الرعيان"، حين توسط الكرسى خشبة المسرح وبدأ فى الطيران، وكأن منصور يرى الوطن بمثابة كرسى لا يعتليه سوى المفسدين، فأبى وغنى "انتبهوا على الوطن .. انتبهوا .. الوطن عم بيطير".
غيبه الموت اليوم الثلاثاء فى مستشفى أوتيل ديو، عن عمر يناهز 84 عاماً، بعد معاناة مع المرض ورحل تركاً وراءه تراثاً من الموسيقى والألحان ما يكفى للبكاء على وطن يتسرب من بين أيدينا مع رحيل رموزه واحداً تلو الآخر.
يعد منصور الرحبانى واحداً من أعمدة مدرسة الرحبانية الموسيقية والمسرحية، وهو من مواليد عام 1925 فى بلدة إنطلياس فى لبنان، وشكل مع شقيقه الأكبر عاصى ما عرف فى تاريخ الموسيقى العربية بـ "الأخوين رحبانى".
قدم الأخوان رحبانى الكثير من المسرحيات الغنائية، وكانا أفضل من قدم أعمالاً مسرحية غنائية فى الوطن العربى من دون منازع، وكانت فيروز هى البطلة المطلقة فى جميع مسرحياتهم، وبعد وفاة عاصى عام 1986 ظهر لأول مرة اسم منصور، وذلك فى مسرحية "صيف 840" من بطولة غسان صليبا وهدى حداد، وواصل تقديم مسرحياته، ومنها "الوصية" و"ملوك الطوائف" و"حكم الرعيان" و"سقراط" و"النبى" المأخوذة عن نص جبران خليل جبران و"زنوبيا". وكان منصور يكتفى بالنقد فى مسرحياته فى البداية، ولكنه فى أعماله الأخيرة أخذ على عاتقه دق ناقوس الخطر معلناً تشاؤمه وإحساسه بأن الخراب أصبح وشيكاً ومرئياًً.
ويعد ما قدمه الأخوان رحبانى ثم منصور لاحقاً صدى لصرخات المقهورين والمظلومين عبر التاريخ الإنسانى، ومسرحياتهما العديدة شاهدة على ذلك، ولعل أبرزها فى هذا المجال، مسرحية "جبال الصوان"، أما أكثر مسرحياته سخرية من الولع بالحكم والاستبداد بالبشر، فهما "ناطورة المفاتيح" و"يعيش يعيش".
وامتد نشاط منصور إلى مجالات فنية عديدة منها التمثيل، كما فى مسرحية "جسر القمر" عام 1962 والتأليف فى تسع مسرحيات هى "عودة الفينيق" عام 2008 و"زنوبيا" 2008 و"سيلينا" عام 2008 و"جبران والنبى" عام 2005 و"أبو الطيب المتنبى" عام 2001 و"ملوك الطوائف" عام 2001 و"آخر أيام سقراط" 1998 و"صيف 840" عام 1988 و"حكم الرعيان"، كما وضع الموسيقى لمسرحيات "زنوبيا" و"أبو الطيب المتنبى" و"ملوك الطوائف" و"آخر أيام سقراط" و"صيف 840"، وقام بإنتاج ثلاث مسرحيات هى "عودة الفينيق" و"أبو الطيب المتنبى" و"ملوك الطوائف".
وإضافة إلى كونه مسرحياً كبيراً امتلك ناصية الفكرة والقصة والسيناريو والحوار ووضع الألحان والإبداع الموسيقى فى مجال التأليف، فهو شاعر كبير أيضاً، ولو كان لنا أن نصطفى شعراء كبار باللغة المحكية للقرن العشرين، لكان منصور ومعه عاصى على رأس هذا الهرم الشعرى.
وكان منصور أفرج مؤخراً عن كتاباته الشعرية التى صدرت فى أربعة كتب، فيما احتضن كتاب خامس قصائد مغنّاة بصوت فيروز بتوقيع الأخوين رحبانى، وتضمن كتاب "القصور المائية" قصيدة إلى عاصى فيها خطاب مباشر، حيث يناديه أكثر من مرة "يا عاصى" ويشعرنا وكأنه يجالسه وجهاً لوجه، وهى بالعامية ويحكى فيها اشتياقه له قائلاً "يا عاصى: لو فيى بَطّل هالأدويهة .. كنت قوام بلْحَقَكْ.. بس يِمْكن أنا جبان".
رحم الله منصور الرحبانى الذى شكًل مع شقيقه ظاهرة فريدة من نوعها فى الشرق على صعيد الإبداع الموسيقى والشعرى، وهى ستبقى مغروسة فى الوجدان والتاريخ لما تكتنزه من إبداع غير مسبوق يصعب أن يتكرر.
No comments:
Post a Comment